ترخيص المجلس الأعلى للإعلام

رقم : ٢٠٢٢ / ٦٠

رئيس التحرير

إبراهيم عادل

رئيس التحرير التنفيذى

مصطفى صلاح

د. مصطفى مدبول رئيس مجلس الوزراء

رئيس الوزراء يكتب.. "الدّيْن بين لحظة الذروة ومسار التصحيح: كيف تقرأ الدولة عبء اليوم؟"

الخميس، 18 ديسمبر 2025 01:51 م

ينشر موقع “ يلا بيزنس” مقالًا للدكتور مصطفى مدبولي رئيس مجلس الوزراء، بعنوان: "الدّيْن بين لحظة الذروة ومسار التصحيح: كيف تقرأ الدولة عبء اليوم؟"، وهذا نصه. 

مقال لرئيس مجلس الوزراء بعنوان:

"الدّيْن بين لحظة الذروة ومسار التصحيح: كيف تقرأ الدولة عبء اليوم؟"

د. مصطفى مدبولي

رئيس مجلس الوزراء 

ندرك تمامًا أن قضية الدّيْن العام وخدمة الدّيْن في مصر لم تعد مجرد أرقام تُتداول في تقارير اقتصادية، بل أصبحت سؤالًا مشروعًا لدى المواطنين عن القدرة على الاستمرار وحدود الاحتمال في ظل ضغوط معيشية متزايدة. ويزداد هذا القلق كلما ارتفعت كُلفة الحياة أو ضاقت هوامش الإنفاق العام، فيبدو المشهد مُختزلًا في معادلة مباشرة بين ديون مرتفعة وضغوط يومية محسوسة. غير أن مسؤولية الحكومة تقتضي التعامل مع هذا السؤال بقدر من الشفافية والعمق، لأن الاقتصادات لا تُدار بمنطق الاختزال، ولا يمكن فهم مسارها بمعزل عن السياق الدولي والصدمات المتلاحقة التي أعادت تشكيل أولويات التمويل والنمو في العالم خلال السنوات الأخيرة.

فمنذ عام 2020، لم تتحرك مصر في فراغ أو في ظرف داخلي معزول، بل واجهت، شأنها شأن العديد من الاقتصادات النامية، بيئة دولية شديدة الاضطراب، بدأت بجائحة عالمية غير مسبوقة، ثم صدمة تضخمية حادة، أعقبتها أسرع دورة تشديد نقدي عرفها الاقتصاد العالمي منذ عقود. وفي هذا السياق، جاءت الضغوط المرتبطة بارتفاع الدّيْن وخدمته انعكاسًا لكُلفة الحفاظ على الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي ومنع الانكماش، لا نتيجة مسار منفصل عن هذه الصدمات، قبل أن تبدأ الدولة اليوم، وبصعوبة، مرحلة الانتقال من إدارة الأزمة إلى إعادة ضبط المسار.

وقد يبدو للبعض أن الأرقام الحالية تُمثل نهاية الطريق، بينما تُظهر الحالة المصرية أن جوهر التحول الجاري لا يتحدد بحجم الدّيْن وحده، بل باتجاه حركته ومصادر تمويله وهيكل آجاله. ففي عام واحد، أصبحت الدولة سدّادًا صافياً للدين الخارجي بنحو 3.4 مليار دولار، رغم بقاء الرصيد الكلي مرتفعًا بفعل تراكمات سابقة. كما جرى تحويل التزامات قائمة بقيمة 11 مليار دولار إلى استثمار مباشر طويل الأجل، في خطوة تعكس تغيرًا مقصودًا في السلوك المالي من الاعتماد على الاقتراض قصير الأجل إلى شراكات أطول أمدًا وأكثر ارتباطًا بالقدرة الإنتاجية. ويعزز هذا الاتجاه أن الديون طويلة الأجل أصبحت تُمثل نحو 81٪ من إجمالي المديونية، بما يقلل ضغوط إعادة التمويل ويمنح المالية العامة مساحة زمنية أوسع للإدارة. هذا التحول قد لا يظهر في رقم الدّيْن المجرد، لكنه يتضح عند تتبع حركة الأموال الداخلة والخارجة، وما إذا كانت الموارد الجديدة تضيف أعباء سداد مستقبلية أم تسهم في تخفيفها عبر الاستثمار والنمو.

ويكتمل هذا التحول باستخدام أدوات غير تقليدية لإدارة الدّيْن، من بينها آلية مبادلة الديون، التي شهدت مصر خلالها دورًا بارزًا في عام 2024. فقد كانت مصر إحدى سبع دول فقط نفّذت اتفاقات مبادلة أسهمت في خفض الالتزامات الخارجية مقابل إعادة توجيه الوفورات إلى مشروعات تنموية وقطاعات اجتماعية وبيئية. كما تُعد العملية التي شاركت فيها مصر الأكبر عالميًا خلال العام، وهو ما يعكس اعتماد الدولة على أدوات مُعترف بها دوليًا لتخفيف العبء المالي، وتحويل جزء من التزامات الدّيْن إلى موارد تُستخدم مباشرة في دعم أولويات التنمية، بدلًا من استمرار استنزافها في خدمة الدّيْن وحدها.

ومن هنا يصبح السؤال الحقيقي أقل ارتباطًا بكم بلغ الدّيْن، وأكثر اتصالًا بكيف يُدار، ولأي غرض يُستخدم، وكيف تُوزَّع كُلفته عبر الزمن. فالدّيْن الذي يضغط على الموازنة ويزاحم الإنفاق الاجتماعي يختلف جذريًا عن دَيْن يُعاد توجيهه أو يُستبدل بتدفقات استثمارية تخفف عبء السداد وتدعم النمو. وبين هذين النموذجين تعمل الدولة اليوم، في مسار معقد لا يخلو من كُلفة، لكنه يعكس توجهًا مقصودًا للانتقال من منطق التمويل الطارئ إلى منطق الاستدامة والانضباط المالي.

وفي هذا الإطار، تدرك الحكومة أن الجدل الدائر حول الدّيْن يرتبط بلحظة زمنية بعينها، تتقاطع فيها استحقاقات سابقة مع محاولات تصحيح لاحقة، فتظهر الأرقام في أقصى درجات حدتها قبل أن تبدأ بالانحسار. وتشير التجارب الدولية، إلى أن كُلفة التحول غالبًا ما تتجسد أولًا في صورة ضغوط مالية مرتفعة، قبل أن تنعكس آثار إعادة الهيكلة وتغيير أدوات التمويل على مؤشرات الاستدامة والقدرة على الحركة. ومن هنا، تتحدد عدالة التقييم بين قراءة آنية للأعباء، وقراءة أعمق لمسار يجري العمل عليه ولم تكتمل نتائجه بعد.

وعليه، فإن تعامل الحكومة مع ملف الدّيْن لا يقوم على ثنائية الدفاع أو الإدانة، بل على قراءة أكثر تركيبًا، تُميز بين الضغوط الظرفية والاختيارات الاستراتيجية. فالدولة التي تمر بذروة في خدمة الدّيْن ليست بالضرورة دولة تسير في اتجاه خاطئ، تمامًا كما أن تحسن الأرقام في الأجل القصير لا يعني بالضرورة ترسخ الأسس الاقتصادية. ولهذا، يظل المعيار الأهم في تقييم السياسات هو اتجاه الحركة: هل يتغير هيكل التمويل؟ هل تتراجع الاعتمادية على الديون قصيرة الأجل؟ وهل تُستبدل الالتزامات المالية بتدفقات قادرة على توليد قيمة مضافة مستدامة؟ عند هذا الحد، يصبح التقييم موضوعيًا، وينتقل النقاش من صخب الأرقام إلى جوهر السياسات وأثرها الحقيقي.

ومن هذا المنطلق، ترى الحكومة أن المرحلة الراهنة تمثل اختبارًا لصلابة الاختيارات أكثر مما هي اختبار لسلامتها النظرية. فالانتقال من اقتصاد يعتمد على تدفقات دَيْن سريعة إلى اقتصاد يجذب استثمارًا أطول أمدًا، ويُعيد توزيع أعباء التمويل عبر الزمن، لا يتم دون كُلفة، ولا يمر دون ضغوط اجتماعية ومالية محسوسة. غير أن الفارق الجوهري يكمن في أن هذه الكُلفة، على قسوتها، ترتبط بمحاولة واعية لكسر حلقة الاستدانة المتكررة، لا بإدامتها، وبإعادة بناء علاقة أكثر توازنًا بين التمويل والنمو، لا بالهروب المؤقت من الاستحقاقات.

ويبقى التحدي الأكبر أمام الحكومة هو كيفية إدارة هذه اللحظة مع الرأي العام، ليس عبر التقليل من حجم العبء أو إنكاره، بل عبر وضعه في سياقه الصحيح، وشرح أسبابه وحدوده، والمسار المتوقع لتفكيكه. فالأزمات المالية لا تُقاس فقط بحدّة أرقامها، بل بقدرة الدولة على تحويلها من نقطة ضعف إلى دافع لإعادة الانضباط، ومن ضغط آنيِّ إلى مسار تصحيحي طويل النفس، يُقاس نجاحه بمرور الوقت وبالأثر الحقيقي، لا بلحظة واحدة.

خلال السنوات الأخيرة، برز في النقاش العام طرح يربط ملف الدّيْن العام بتمويل مشروعات بعينها، ويقدمه في صورة سردية واحدة تختزل الأزمة في مشروعات يُقال إنها بلا جدوى اقتصادية، مثل الطرق والمدن الجديدة، مقابل إهمال ما يُعرف ببناء الإنسان. وقد وجد هذا الطرح صدى لدى قطاعات واسعة من الرأي العام، لما يقدمه من تفسير مباشر ومبسّط لقضية معقدة، ويحوّل نقاشًا اقتصاديًا متشابكًا إلى سبب واحد سهل التداول.

غير أن هذه القراءة، على بساطتها، لا تعكس الصورة الكاملة. فهي تخلط بين العائد المالي المباشر والعائد الاقتصادي الكلي طويل الأجل، وتتجاهل أن مشروعات البنية الأساسية لا تُقام باعتبارها مشروعات ربحية، بل كاستثمارات تُخفض تكاليف الإنتاج والنقل، وترفع إنتاجية العمل، وتزيد القيمة الاقتصادية للأصول، وهي شروط لا غنى عنها لتحسين التعليم، والصحة، وخلق فرص عمل مستدامة. كما أن بناء الإنسان ذاته لا يتحقق في فراغ، بل يحتاج إلى بيئة عمرانية وخدمية قادرة على استيعاب النشاط الاقتصادي وجذب الاستثمار.

كما يغفل هذا الطرح أن الدّيْن لم يكن نتاج هذه المشروعات وحدها، بل تَشكّل في سياق صدمات خارجية متلاحقة فرضت على الدولة تمويل فجوات قائمة للحفاظ على الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي. فضلًا عن ذلك، لم يتوقف الإنفاق الاجتماعي، لكنه تعرض لضغوط قللت من أثره الظاهر بفعل التضخم والنمو السكاني. ومن ثم، فإن اختزال أزمة الدّيْن في «طرق وكباري» لا يقدم تشخيصًا دقيقًا بقدر ما يُبعد النقاش عن السؤال الأهم: كيف نُحوّل ما أُنجز من استثمارات مادية إلى قاعدة إنتاجية حقيقية تعزز بناء الإنسان، بدل وضع الاستثمار في الحجر والاستثمار في البشر في مواجهة زائفة.

وفي هذا السياق، تلتزم الحكومة بأن يكون مسار إدارة الدّيْن جزءًا من رؤية أوسع للإصلاح، لا هدفًا قائمًا بذاته. فالمعيار الحقيقي لنجاح السياسات الاقتصادية لن يكون في مجرد تراجع الأرقام، بل في قدرتها على الانعكاس على حياة المواطنين، من خلال اقتصاد أكثر قدرة على خلق فرص العمل، وتحسين جودة الخدمات، وتعزيز العدالة في توزيع أعباء التحول. وواجبنا في هذه المرحلة هو الاستمرار في هذا المسار بقدر عالٍ من الانضباط والشفافية، مع الاعتراف بالكُلفة الاجتماعية والمالية، والعمل على تخفيفها قدر الإمكان، حتى يصبح الإصلاح مسارًا مفهومًا ومقبولًا، لا عبئًا غامضًا يُضعف الثقة بين الدولة والمجتمع.

في النهاية، فإن الحكم على مسار الدين لا يكون عند لحظة الذروة، بل عند ما يليها. فالدول لا تُقاس بقدرتها على تجنب الأزمات دائمًا، بل بقدرتها على إدارتها وتحويلها إلى مسارات تصحيح أكثر توازنًا واستدامة. ومسؤوليتنا أن نستمر في هذا الطريق بوضوح وانضباط، وأن نربط إدارة الدّيْن بالنمو الحقيقي وبناء الإنسان، حتى يصبح ما نتحمله اليوم عبورًا ضروريًا نحو اقتصاد أقوى وأكثر قدرة على تلبية تطلعات المواطنين، لا عبئًا دائمًا يُقيّد المستقبل.

وانطلاقاً من هذا الإلتزام، تعمل المجموعة الاقتصادية على دراسة وتنفيذ حزمة من الحلول الاستثنائية الهادفة إلى خفض أعباء الدّين، وتسريع مسار الاستدامة المالية، من خلال إجراءات متكاملة يجري الانتهاء من ملامحها النهائية. وسيتم- تنفيذا لتوجيهات فخامة الرئيس عبدالفتاح السيسي، رئيس الجمهورية- الإعلان عن عدد من هذه الإجراءات خلال الأيام المقبلة، في إطار رؤية واضحة تستهدف تخفيف الضغوط على المالية العامة، وتعزيز قدرة الاقتصاد على النمو، بما ينعكس بصورة مباشرة على تحسين أوضاع المعيشة، وتوسيع هامش الإنفاق على الخدمات الأساسية التي تمس حياة المواطنين.